لكي لا تغيب فلسطين من الذاكرة ولا يغيب الفلسطينييون!!!

سليمان الشّيخ




في الأسبوع الأخير من شهر تموز/يوليو الماضي، بثت إحدى شركات الإعلان الإسرائيلية إعلانا بمناسبة الذكرى الخامسة للبدء ببناء جدار الفصل العنصري، الذي صادر الكثير من الأراضي الفلسطينية، وحرم فلسطينيين كثراً من التواصل حتى مع جيرانهم أو مع أراضيهم، مع أن محكمة العدل الدولية حكمت ببطلان إقامة الجدار، كونه يقام على أراض محتلة، ولا يجوز للمحتل التصرف بها. مع ذلك، ولأن دولة الاحتلال تصرفت دائما وأبدا كونها فوق القانون الدولي، ولا تخضع لمترتباته، ومحمية من أصدقاء وحلفاء لم يخذلوها أبدا، ما زال العمل بالجدار مستمرا ويتحدى الجميع، أما الدعاية التي تم بثها فقد أظهرت جنودا إسرائيليين بلباسهم العسكري أو بلباس مدني وهم يقذفون كرة فوق الجدار إلى الجانب الآخر منه، ولكن من دون أن تظهر الكاميرا أو تعين من هم أولئك الذين يفترض بهم أن يردوا الكرة إلى مطلقيها. وهكذا تستمر اللعبة بين قذف للكرة من هذا الجانب إلى ذاك وبالعكس، لكن بإصرار من الذين يقفون وراء إنتاج الإعلان والدعاية في تجهيل الطرف الآخر، والمفترض أنه الفلسطيني.
هكذا وبعد مرور نحو ما يزيد عن ستين عاما على إنشاء الكيان الصهيوني على أرض الفلسطينيين، وطرد أغلبهم منها بقوة السلاح، وبعد مرور أكثر من أربعين عاما على احتلال البقية الباقية من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وحكم الناس بالحديد والنار، واستعمال أبشع الأساليب الباطشة بحقهم وبحق حياتهم ووجودهم، يتم تجاهلهم واعتبارهم غير موجودين! كون المشروع الصهيوني بالأساس ومنذ نهايات القرن التاسع عشر قام على أساس أسطورة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" حسب الشعار الذي ابتدعه الصهيوني الإنكليزي يسرائيل زانغويل. ومع أن زانغويل هذا زار فلسطين في عام 1897، وواجهته حقائق وجود الشعب الفلسطيني في أرضه وأملاكه، وأنه يبدع حياة واستقرارا واستمرارا منذ آلاف السنين. مع ذلك فإن زانغويل عاد وكتب عام 1920: "ليس ثمة من شعب عربي يعيش في تلاحم وثيق مع البلد، مستخدما موارده، وطابعا إياه بطابعه الخاص، هنا كان على أحسن تقدير مضرب للبدو العرب"!. ولم يكتف زانغويل بذلك، بل ولتجاهله وجود شعب في فلسطين هو صاحب الأرض، حرّض على الإبادة والطرد، كما كتب في عام 1905 "علينا أن نستعد إما لطرد القبائل العربية صاحبة الملكيات والأراضي بحد السيف، كما فعل أجدادنا، وإما أن نتعامل مع مشكلة وجود عدد كبير من السكان الغرباء"!
استمر تجاهل وتجهيل وجود الفلسطينيين قائما، رغم مجازر وحشية وطردا كثيفا مارسته المنظمات الصهيونية قبل وأثناء وبعد عام 1948، عام النكبة الكبرى للفلسطينيين وطرد ما يزيد على 750 ألف مواطن فلسطيني من مدنهم وقراهم، وتشريد ما يزيد عن 250 ألف نسمة وترويعهم وإخضاعهم للحكم العسكري، وهم الذين ولظروف مختلفة بقوا في فلسطين بعد احتلالها، واستمر الطرد وارتكاب المجازر بحق الفلسطينيين حتى بعد قيام الدولة الصهيونية، إن كان لفلسطينيي الداخل أو لفلسطينيي النكبة والتشريد.
رغم ذلك فإن غولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيلية سابقة أثناء سبعينات القرن الماضي، استمرت في تجاهل وتجهيل الفلسطينيين، حيث ذكرت في آب/أغسطس عام 1973 وفي مقابلة مع الإذاعة الإسرائيلية: "إن كل شئ لم يحدث كما لو كان في فلسطين شعب فلسطيني يعتبر نفسه شعبا، وإنّا طردناه كي نأخذ مكانه ، إنهم لم يكونوا موجودين"!!.
إذن مع من كانت حروب الصهاينة اعتبارا من أوائل القرن الماضي وحتى الآن؟ وبحق من ارتكبت المجازر كلها، وهل كان كل ذلك مع الأشباح، ومع أناس يجيدون التخفي والاختباء ويتقنونهما؟ ومع من تفاوض ويتفاوض الإسرائيليون منذ ما قبل تسعينات القرن الماضي وحتى الآن، وما بعد الآن؟. غريبة هذه "البارانويا" الإسرائيلية العصية على الفهم والعقل الإنسانيينّ.
باختصار.. إن الفيلم الدعائي عن الجدار، جدار الفصل العنصري، وجنود الاحتلال المرئيين الذين يلعبون الكرة مع أشباح، أو مع ناس غير مرئيين، والذي تم بثه في الأسبوع الأخير من شهر تموز /يوليو الماضي هو من جنس ما سبقه من تجاهل وتجهيل وإخفاء لوجود شعب عربي فلسطيني، وهذا في علم الأمراض النفسية والعقلية نوع خطير من تلك الأمراض!
[ في الثالث عشر من تموز/ يوليو الماضي، أعلنت وزارة النقل والمواصلات الإسرائيلية أنها ستمحو الأسماء العربية عن يافطات الأماكن وإشارات السير للمدن والبلدات والقرى العربية داخل ما يسمى الخظ الأخضر أي في فلسطين المحتلة عام 1948، والإبقاء على الأسماء العبرية مع الأسماء الإنكليزية فقط. وهو ما درج البريطانيون ومنذ احتلالهم فلسطين عام 1917 على فرض استعماله باللغات الثلاث، وذلك على جميع المعاملات الرسمية وعلى العملة، وعلى إشارات المرور وأسماء الأماكن العامة.. إلخ في محاولة منهم لفرض العبرية فرضا. وبقي الأمر كذلك بعد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
والآن مع صعود اليمين الصهيوني المتطرف سدة السلطة بخطو خطوته الأخيرة أن الفلسطينيين لا يطلقون الأسماء العبرية على الأماكن، بل يستخدمون الأسماء العربية فقط. في حين أن الهدف الحقيقي من وراء الخطوة الإسرائيلية المشار إليها، محاولة طمس ومحو عروبة فلسطينية الأماكن التي ترسخت عبر حقب طويلة من التاريخ، ومحاولة تجهيل الوجود العربي الفلسطيني المستمر، وإلغاء ذاكرة وأسماء الأماكن مع الزمن، وفرض حقائق جديدة تساوقا مع خطط مصادرة الأراضي والأماكن الفلسطينية وبناء المستعمرات وادعاء ومصادرة كل ما يمت إلى الفلسطينيين من مأكل ومشارب وملابس وفنون وموسيقى وفولكلور في الحكايات والموروث الشعبي وغير ذلك. أي أن المخطط الصهيوني يركز على النيل من لغة وثقافة المجتمع الفلسطيني الباقي والمتجذر في أرض وطنه.
لذ فإن صيحة "لم تكونوا موجودين" التي أطلقتها غولدا مائير رئيسة وزراء الكيان الصهيوني في سبعينات القرن الماضي، لإنكار وجود الفلسطينيين في فلسطين، ما هي إلاّ استمرار لصيحات ومقولات سابقة ولاحقة تبناها ويتبناها زعماء صهاينة. إذ أعاد موشيه دايان وزير الحرب في غير حكومة إسرائيلية في معهد التخنيون ـ معهد تقني ـ في حيفا عام 1969، تكرار مزاعم تقول: "لقد جئنا إلى هذا البلد الذي كان العرب قد توطنوا فيه ـ أي طارئون عليه ـ ونحن نبني دولة يهودية، لقد أقيمت القرى اليهودية مكان القرى العربية. أضاف: أنتم لا تعرفون حتى أسماء هذه القرى العربية، وأنا لا ألومكم، لأن كتب الجغرافيا لم تعد موجودة، وليست كتب الجغرافيا وحدها التي لم تعد موجودة، بل القرى العربية نفسها زالت أيضا، فقد قامت نهلال ـ المستعمرة التي سكنها دايان نفسه ـ في موضع معلول، وكيبوتز غفات في موضع جباتا، وكيبوتز ساريد في موضع خنيفس، وكفار يهوشع في موضع تل الشوهان، وما من موضع بني في هذا البلد إلاّ وكان فيه أصلا سكان عرب".
هكذا وبوضوح فإن دايان باح بالحقيقة من دون تجميل أو تزويق, لذا أن يأتي من يخلفه في ذلك، فيغير أسماء الأماكن ويشطب عربيتها، أو يمحو العربية من أسماء الطرق وإشارات وإرشادات المرور وغير ذلك، فإن ذلك من أساسات المشروع الصهيوني، أي الحلول محل الفلسطينيين، ومحاولة طرد تاريخهم ومحو لغتهم تمهيدا لطردهم من المكان.
[ في 22 من الشهر الفائت فرضت وزارة التربية الإسرائيلية تدريس النشيد الإسرائيلي الرسمي في المدارس، بما في ذلك المدارس في المناطق ذات الأغلبية العربية الفلسطينية، حيث ذكرت حاجيت كوهين المتحدثة باسم وزارة التربية أن الوزارة أقرت التعليم الإلزامي لنشيد "هتكفا" في المدارس العربية واليهودية لتعليم النشيد وتاريخه وسماعه. في حين أن رئيسة لجنة المتابعة العربية لقضايا التعليم هالة إستنبولي علقت بالقول: "إن محاولة فرض النشيد على المدارس العربية والطلاب العرب ستكون محاولة لاغتصاب هوية الطلاب العرب"، مضيفة إن مضامين هتكفا عنصرية ولا يوجد أي ذكر لنا نحن الفلسطينيين، فلماذا يتعين على طلابنا أن يتعلموا مضامين النشيد؟ لهذا نخن نعارض بشدة مثل هذه المبادرات التي تعمق اغتراب الطلاب والمعلمين العرب".
وكان سبق ذلك توزيع تعميم في المناطق العربية من قبل السلطات الإسرائيلية نص على عدم استعمال كلمة "النكبة" وصفا لمأساة تشريد الفلسطينيين من ديارهم عام 1948، وهدد بعدم تمويل البلديات العربية وعدم دفع ميزانياتها الخدماتية إذا استمرت باستعمال الكلمة، أو إظهار الحزن أو أية مظاهر تشير إلى ذلك.
هكذا وإذ لم يكتف المحتل الصهيوني باحتلال الأرض وإجلاء أغلبية المواطنين الفلسطينيين وتشريدهم بقوة السلاح وبطشه، ها هو يلاحق ويطارد الكلمات، كما إنه يريد ممن تبقى من الفلسطينيين على أرضه وفي وطنه عدم البوح بمكنون مشاعره وأحاسيسه، وعدم إطلاق اسم النكبة على ما جرى له ولأهله من تشريد وتهجير من الوطن، ويريد فوق ذلك فرض نشيد "أمله" على من أغلق في وجوههم ووجودهم وحياتهم أية آمال. أي يريد تحويل الفلسطيني إلى صهيوني، وإلاّ لا مكان له في أرض أهله وأجداده، أو أن عليه مواجهة معاناة يتفنن فيها الفاشي الصهيوني في تنويع وفرض تفاصيلها.